عددالزائرين الان

الجمعة، 4 أغسطس 2017

موقع راديودلهمو الاخبارى مرصد حلوان.. الصندوق الذهبى لرسائل السماء إلى المصريين

فى عام 1995 أطلق المفكر الاقتصادى المعروف جلال أمين كتابه الشهير «ماذا حدث للمصريين»، معبراً عن سؤاله الحائر بأسلوب رشيق ولغة سلسلة، عن التدهور الرهيب فى جميع مناحى حياة
المصريين اليومية خلال خمسين عاماً فقط بدأها من عام 1945 وصولاً إلى عام 1995 وقت صدور الكتاب، وانكسار ذوقهم الاجتماعى والموسيقى والسينمائى، وقبل كل ما سبق تفوق المصريين العلمى وصعود عبقريات متفردة فى مجال الصناعة والطب وأيضاً علوم الفلك.
السؤال الحائر للمفكر الاقتصادى الكبير جلال أمين لابد أن يقفز فى مخيلتك بمجرد أن تتخطى بقدميك البوابة الحديدية العتيقة لمرصد حلوان الذى كان منذ سنوات قريبة لا تتجاوز النصف قرن أحد أقدم وأكبر وأهم المراصد الفلكية فى الوطن العربى الذى ربما لا تعرف عنه الأجيال الشابة من المصريين شيئاً، ليظل السؤال الحائر والمحزن معاً مفاده: ماذا حدث للمصريين، وهل فقدوا شهيتهم الحضارية نحو الإبداع والابتكار والتفرد؟
البداية حينما جاء القائد العسكرى الفرنسى نابليون بونابرت بحملته الشهيرة الى مصر عام 1799، عرف ان سماء المحروسة ترسل عطاياها إلى المصريين، وتفك شفرتها من حركة الكواكب والنجوم، فبنى مرصداً فلكياً بسيطاً فى القاهرة، وظلّ يعمل حتى سنة 1860 عندما تقرر إغلاقه. ولم ييأس العلماء الفرنسيين وازداد فضولهم لقراءة سماء مصر ورصد نجومها فتم عام 1868 بناء مرصد جديد فى منطقة العباسية. وأراد العلماء الفرنسيون استخدامه فى إجراء دراسات على مجال الأرض المغناطيسى، غير أنهم اكتشفوا أن ذلك لن يكون ممكناً بسبب خطوط القطارات المحيطة بالمكان التى تؤثر فى مغناطيسيّته، كما ازداد التلوث الضوئى الصادر من مدينة القاهرة عموماً مصعباً استخدام المرصد، فتقرَّر نقله إلى حلوان فى سنة 1903، ليسجل التاريخ ميلاد أحد أقدم وأكبر وأهم المراصد الفلكية فى الوطن العربى، خصوصاً فى تحديد المسائل الفلكية فى الإسلام كرصد الأهلة وتحديد مواقيت الشهور بالتقويم الهجرى لتختاره منظمة اليونسكو فى سنة 2011 كأحد مواقع التراث العالمى فى مصر.
التجول فى ارجاء المرصد يعطيك شعوراً بحالة من السكون، كانت تلف المكان فى الزمن البعيد، فالمرصد مبنى على شكل نصف دائرة، وموجود به مبانٍ مختلفة التصميم، فما بين قبة دائرية، ومبنى إدارى، ومتحف للمعدات القديمة، القبة الخضراء، أنشئت عام 1930، لرصد النجوم، كما تحتوى على تليسكوب شمسى، لرصد الظواهر الشمسية، إلى جوار مبنى يختص بالزلازل وقياس درجاتها.
 يقول الدكتور اشرف شاكر: إن المكان يرتاده الشغوفون بعلم الفلك، يذهبون إلى مبنى على شكل منارة، يرفرف عليها علم باهت لمصر، ويتضمن مكتبة عامرة بآلاف الكتب العلمية، التى تعد مرجعاً أساسياً للأفلاك. المبانى يقبع بعضها فى مكانها منذ عام 1903، كالمبنى الخاص بالتليسكوب.
يحيط المكان من كل جانب لون الرمال الصفراء تحيط بها جبال متكسرة على شكل هضاب غير متساوية تغرق فى فضاء شاسع، أما الجهة المقابلة، فوسط ركام من الأتربة، وعواصف الغبار، تربض العمارات الشاهقة، تتنفس أبخرة دخان المصانع المنتشرة حولها ليصبح حرم المرصد كتلة من التلوث والقبح المعمارى.
حكاية المرصد وما يمتلكه من مقتنيات نادرة لا يوجد مثيل لها فى العالم وراءها قصص ومرويات غريبة.. هكذا تحدث إلى «الوفد» الدكتور اشرف شاكر أستاذ الفلك بالمعهد القومى للبحوث الفلكية والجيوفيزيقية الذى اخذنا فى جولة بين طرقات المرصد وعمارته العتيقة قائلاً: أقيم مرصد حلوان فى بدايات القرن الماضى، على ربوة من الحجر الجيرى ترتفع نحو 115م فوق مستوى سطح البحر، فى منطقة حلوان النائية آنذاك، حيث كانت تبعد مسافة 30 كم جنوب القاهرة، ولا يزال حجر أساس المرصد الأول موجودًا حتى يومنا الحالى.
يذكر الدكتور أشرف شاكر أن مرصد حلوان كان منذ بداياته الأولى قبلة علماء الفلك فى العالم ومحط دراساتهم وأبحاثهم مشيراً إلى: لقد كان لجمال منطقة حلوان فى ذلك الزمن، ووضوح السماء والرؤية سبباً رئيسياً فى جذب العديد من العلماء منهم سير «هنرى رينولدز» البريطانى الذى كان عالما بالفلك، حيث قرر إهداء مرصد حلوان منظاراً يبلغ قطر مرآته 30 بوصة، ومن هنا كانت البداية، حيث اكتسب مرصد حلوان شهرة عالمية بين مراصد العالم، ليس لأنه المرصد المصرى فقط، بل لأنه المرصد الأوحد فى منطقة الشرق الأوسط آنذاك، وفى تلك البقعة البعيدة من العالم الغربى كانت ليالى الرؤية واضحة بشكل كبير، بل إن ليالى الرصد السنوية تعدت 200 ليلة من إجمالى 365 ليلة هى ليالى السنة كلها، الأمر الذى جعل من السهل على المرصد المصرى أن يبدأ بداية تليق بتاريخ أجداده الفراعنة ويرصد بكل دقة ووضوح للعالم حركة النجوم الخافتة والكواكب.
يقول الدكتور أشرف شاكر بنبرة فخر واعتزاز: إن مرصد حلوان قدم فى أول اكتشاف مسجل باسمه حتى اليوم تصويرا دقيقا لمذنب «هالى» الذى تحدث عنه العلماء كثيرا دون أن يروه رأى العين، لكن مرصد حلوان قدم أول صورة عالمية له عام 1909 قبل مراصد العالم الغربى بسنة كاملة لتصبح صورة مذنب «هالى» المصرية أهم مرجع لكل عالم يقوم بدراسة المذنب حتى يومنا الحالى، كما شارك مرصد حلوان فى اكتشاف كوكب «بلوتو» فى عام 1930م، كما كان للمرصد دور فى تحديد نقاط الحدود الشرقية فى سيناء عام 1906 حيث كانت سببًا رئيسيًا لعودة سيناء كاملة فى المباحثات والمفاوضات والتحكيم الدولى لطابا 1984.
للمرصد أهمية كبيرة بالنسبة إلى العالم العربى والإسلامى فى تحديد مواقيت الأهلة والصلوات وغيرها من المسائل الإسلامية. كما أن المعهد يقوم أيضاً بدراسات حول مجال الأرض المغناطيسى، والنشاط الزلزالى فى المنطقة، ومجال الطاقة الشمسية (إذ يعد أطلساً للإشعاع الشمسى والطاقة بمصر)، ومجال البترول والتعدين. ويشارك مرصد حلوان على الدوام بمتابعة الأهلة وتحديد مواقيتها خصوصاً فى شهر رمضان، ورصد وأحداث الكسوف والخسوف، كما شارك سنة 2012 برصد عبور الزهرة التاريخى الثانى والأخير فى القرن.
ندخل حجرة ضيقة لا يتجاوز اتساعها المترين، سقفها عالٍ من عروق الخشب كمن يريد ان يعانق السماء، مغلقة بقفل كبير مفتاحه مع الدكتور أشرف شاكر الذى كان حريصاً على ان يشاهد «الوفد» تلك الحجرة العجيبة التى تسمى بغرفة الساعات حيث أخذ يشرح لنا طبيعة عمل الساعة النجمية التى لا يوجد مثلها فى العالم: ان تعيين الزمن لمصر والسودان بكل دقة إحدى المهام الرئيسية لمرصد حلوان وتوجد به لهذا الغرض ساعات دقيقة مختلفة غير أنه لما كان سير الساعات بأنواعها يتأثر بالظروف الجوية المختلفة مثل درجة الحرارة والرطوبة والضغط الجوى وهى أمور لا يمكن التحكم بها. لذا وجد أنه يجب معايرة تلك الساعات من آن لآخر بحركة دوران الأرض حول نفسها باعتبارها الساعة الكونية العظمى التى لا يعادلها شىء آخر فى دقة حركتها. وينتج عن هذه الحركة ما يسمى بالحركة الظاهرية للنجوم التى برصدها يتم ضبط الساعات عالميا بدقة عالية. وتؤخذ هذه الأرصاد بواسطة منظار خاص يسمى بالمنظار الزوالى وتسجل لحظات عبور النجوم كهربائيا مع دقات الثوانى للساعة الرئيسية على جهاز مسجل الزمن لتعيين مقدار الخطأ فى الساعة النجمية، ومن ثم تقارن بها الساعات التى تبين الوقت المدنى لتعيين مقدار الخطأ وتصحيحه يوميا بحيث لا يتجاوز الخطأ فى إشارات الوقت التى تُعطى من المرصد واحدًا على خمسة من الثانية.
وفى الماضى كان يوجد اتصال كهربائى بين المرصد ومصلحة التلغراف وبأجهزة خاصة فى الموانئ المصرية وبالجهاز الخاص بإطلاق مدفع الظهر من القلعة، وكذلك كانت الساعة الموجودة بالمرصد تضبط الساعة الموجودة بتفتيش عام ضبط النيل التى تحتوى على جهاز لإرسال ست إشارات زمنية إلى محطة الإذاعة وساعة جامعة القاهرة فى تمام الساعات وأنصافها.