حماس لم تدمَّر.. هل خسرت إسرائيل الحرب في غزة؟
بعد ستة أشهر من "طوفان الأقصى"، لم تحقّق إسرائيل تقدماً يُذكَر في القضاء على حماس أو قدراتها، ولم تؤد حربها في غزة إلا إلى تغذية وتوسيع الدعم للمقاومة. لقد أخطأت تل أبيب في حساباتها، فلا يمكنها محاربة الأيديولوجية بالبنادق.
رغم الادعاءات المتكرّرة للجيش الصهيوني بقصف أنفاق حماس، أصبح من الواضح الآن أن هذا القصف لم يكن فعالًا بشكل كبير
بعد أكثر من خمسة أشهر من حرب الإبادة الجماعية في غزة، أكدت الاستخبارات العسكرية الصهيونية للقادة السياسيين ما كان سرًا معروفًا: يستحيل تحقيق نصر ناجز على حماس. بمعنى آخر، أبلغ جيش الاحتلال الحكومة بأن الهدف المزعوم لغزو غزة وإخضاع سكانها لأعمال وحشية، ببساطة، لا يمكن تحقيقه.
في منتصف تشرين الأول/أكتوبر، قال تساحي هنغبي، رئيس جهاز الأمن القومي الإسرائيلي "إن النتيجة الوحيدة المقبولة لنا هي تحقيق نصر كامل. لن ندمّر القدرات العسكرية والحكومية لحماس فحسب، بل سنضمن أيضًا أن لا تتمكن من إحيائها بعد ذلك".
وفي 18 آذار/مارس، أقرّ المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري بأن حماس كانت تعيد تجميع صفوفها حول مستشفى الشفاء. بالمعنى السياسي، يشير هذا إلى أن جيش الاحتلال لم يتمكن من القضاء على الحركة أو فرض سيطرته على المنطقة.
وتعليقًا على التطور نفسه، أشار مستشار الأمن القومي الأميركي، جيك سوليفان، إلى أن "إسرائيل طهرت الشفاء مرة واحدة. وعادت حماس إلى الشفاء، مما يثير تساؤلات حول كيفية ضمان حملة مستدامة ضد حماس حتى لا تتمكن من إعادة إحياء نفسها، ولا تتمكّن من استعادة الأراضي".
مهمة مستحيلة
وشدّد الجنرال في الاحتياط اسحق بريك على أن "التدمير الكلي لحماس غير ممكن، وتصريحات بنيامين نتنياهو بهذا الشأن تهدف فقط إلى خداع الآخرين".
ووفقًا للسلطات الإسرائيلية، فشلت إسرائيل في تدمير شبكة الأنفاق التابعة لحماس، والتي لا يزال 80% منها سليمًا. قبل شهر، قالت وسائل إعلام إيرانية إن طول شبكة الأنفاق يبلغ نحو 250 ميلًا. وقدّر مسؤولون في وزارة الدفاع الإيرانية، طلبوا عدم كشف هوياتهم، طول الشبكة بما يتراوح بين 350 و450 ميلًا، وهو رقم مذهل بالنسبة لأرض لا يتعدى مسافة أطول خط بين نقطتين فيها 25 ميلًا فقط. كما قدّر مسؤولان بأن هناك نحو 5700 فتحة منفصلة تؤدي إلى الأنفاق.
كما كشف المرشد الإيراني آية الله علي خامنئي أن المقاومة الفلسطينية بعثت له رسالة تؤكّد أن "90% من قدراتنا سليمة".
ورغم الادعاءات المتكرّرة للجيش الصهيوني بقصف أنفاق حماس، أصبح من الواضح الآن أن هذا القصف لم يكن فعالًا بشكل كبير. فالقذائف الصاروخية والقنابل الخارقة للتحصينات، التي كان يُعتقد سابقًا أنها ستكون فعالة في تدمير الأنفاق بعد احتلال مناطق معينة في غزة، لم تحقق شيئًا عمليًا حتى الآن. وتبيّن أن تدمير هذه الأنفاق يواجه عقبات كبيرة بسبب امتدادها عميقًا تحت الأرض.
وقال رئيس لجنة المخابرات في مجلس الشيوخ الأميركي، مارك وارنر، إن الجيش الإسرائيلي لم يتمكن من تدمير سوى أقل من ثلث شبكة الأنفاق. كما وجّه انتقادات الى الضعف الذي أبداه جيش النظام الصهيوني، مشيرًا إلى أن أحدًا لم يكن يعتقد بأن إسرائيل لن تتمكن من القضاء سوى على 35 في المئة فقط من مقاتلي حماس.
مما سبق، يتضح أن الهدف الصهيوني المتمثّل في تدمير حماس لم يتحقّق، ولن يتحقّق في المستقبل. على سبيل المثال، ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال" في 29 شباط/فبراير، أن "إسرائيل لا تزال بعيدة عن تحقيق هدف حربها المعلن المتمثل في القضاء على حماس ككيان عسكري وسياسي مهم".
ويمكن تحليل الفشل في تحقيق هذا الهدف من منظورين مختلفين. أولًا، بسبب نوع المقاومة العسكرية التي تبديها حماس بشكل غير متماثل يسمح لها بالهجوم من دون تعريض نفسها لتكبّد كثير من حيث الخسائر. وبهذا المعنى، أدركت حماس الحاجة إلى حماية بنيتها السياسية - العسكرية. ولتحقيق ذلك يتم تنظيم العمل العسكري في خلايا مستقلة تعمل تحت سلطة جناح عسكري منفصل هو كتائب القسام.
وثانيًا، لأن حماس ليست مجرد جماعة، بل هي أيديولوجية، وتحديدًا أيديولوجية تحرّر وطني ضمن تقليد إسلامي مقاوم. وبالتالي، يستحيل استئصال أي أيديولوجية، خصوصًا عندما تكون مهيمنة، كما هي الحال بالنسبة لحركة حماس، ما يعني عدم وجود أيديولوجية أخرى قادرة على الحلول مكانها.
وفي الحالة الفلسطينية، لا يمكن المقارنة حتى بين الأيديولوجية التي تمثّلها فتح/ السلطة الفلسطينية بالأيديولوجية المناهضة للاستعمار التي تمثّلها حماس. وكما يشير المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي في كتابه "فلسطين: سيرة ذاتية. مائة عام من الحرب والمقاومة"، فقد قبلت منظمة التحرير الفلسطينية الخاضعة لسيطرة فتح شكلًا من أشكال "الحكم الذاتي" مع العديد من القيود، في اتفاقيات أوسلو التي استلزمت في الواقع التنازل عن السيطرة الكاملة على السكان والموارد لقوة الاحتلال. وبهذا المعنى، يمكن القول إن حماس، برفضها اتفاقات أوسلو، كانت ترفض خطة صُمِّمت منذ البداية لمصلحة إسرائيل ورؤيتها الاستعمارية. وفي الوقت نفسه، قدّمت حماس نفسها بديلًا سياسيًا للسلطة الفلسطينية المنشأة حديثًا التي قبلت بالاحتلال.
تقييم الحرب كأداة للسياسة
فشل الصهيونية، الذي أصبح معترفًا به علنًا في ما يتعلّق بخططها الأولية لتحقيق "النصر الكامل" على حماس، ينبغي أن يُفهم من وجهة نظر سياسية. وطالما استمر الاحتلال الاستعماري الصهيوني في هدفه المتمثّل في احتلال فلسطين وتهجير الفلسطينيين، فإن أيديولوجية المقاومة، التي تعتبر حماس المثال الرئيسي لها، ستظل مهيمنة بين المستعمَرين.
وتؤكد هذا التحليل استطلاعات الرأي التي أجريت بين الفلسطينيين. على سبيل المثال، يشير استطلاع حديث للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في كانون الأول/ديسمبر 2023، إلى ازدياد التأييد لحماس في جميع أنحاء فلسطين، وليس فقط في غزة، في مقابل تراجع التأييد للسلطة الفلسطينية. كما كشف الاستطلاع أن 72% من الفلسطينيين يعتقدون بأن قرار حماس بشن هجوم 7 أكتوبر كان صحيحًا. وطالب نحو 90% منهم باستقالة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.
ومن المهم أن نلاحظ أنه في بعض الأحيان، قد تكون الأيديولوجية تابعة لمجموعة من المصالح السياسية، ما قد يؤدي إلى تعديل تلك الأيديولوجية لأهدافها السياسية في مرحلة ما. لكن ليست هذه هي الحال بالنسبة لحماس، ولا هي كذلك لدى تحليل أسباب مواجهة حزب الله أو الجمهورية الإسلامية الإيرانية لإسرائيل.
فهم "محور المقاومة"
ولا يمكن تهديد حماس أو بقية "محور المقاومة" أو قصفهم لإرغامهم على الاستسلام، فهذه الجماعات المستقلة لديها أجندة سياسية خاصة بها تعتبرها غير قابلة للتفاوض حتى في مواجهة حملة الإبادة الجماعية التي تشنّها إسرائيل. وكما أكّد الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله مرارًا وتكرارًا في خطاب متلفز بتاريخ 16 شباط/فبراير.
وقال نصر الله "نحن أمام خيارين - المقاومة أو الاستسلام - وثمن الاستسلام... ذُل وخضوع وهوان وعبوديّة، يعني إستهانة بكبارنا وصغارنا، بأعراضنا وأموالنا... وكان ثمن الاستسلام كان يعني أن تُنهب خيرات هذا البلد".
في الحالات المذكورة أعلاه، وكذلك بشكل عام بالنسبة لجميع المجموعات التي يتألّف منها محور المقاومة، لا يوجد تهديد، مهما كان كبيرًا، أو مكافأة، مهما كانت أهميتها، يمكن أن تغيّر ما يعتبر عادلًا وضروريًا. بمعنى آخر، وإذا ما أخذنا إيران كمثال لتوضيح هذه النقطة، فإن علاقتها الخاصة مع فلسطين تشكّل خطرًا داخليًا على الأمن القومي الإيراني من خلال مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة. مع ذلك، ليس لهذه المخاطر أو التهديدات أي تأثير على استراتيجية إيران السياسية في المنطقة، أي على رؤيتها السياسية - الأيديولوجية.
وبالمثل، كان بوسع حماس أن تتقبّل الوضع الاستعماري الراهن، كما فعلت السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها فتح. لكن ذلك كان من شأنه أن يشكّك في هويتها كمجموعة مقاومة للاستعمار، مما يعرّض سبب وجودها للخطر. بعبارة أخرى، فإن الحاجة إلى ضمان هويتها كحركة إسلامية مناهضة للاستعمار هي على وجه التحديد ما يفسّر لماذا تتبنى في كثير من الأحيان سياسات تمثل تهديدًا ماديًا لسلامتها كمجموعة، ولكنها في الوقت نفسه تضمن بقاءها كأيديولوجية.
التهديدات بإبادة حماس وتدمير غزة لا طائل من ورائها. من المنظور العقلاني للجماعة الفلسطينية، من المفهوم أن العواقب ستكون أشد خطورة إذا ما أذعنت لمطالب إسرائيل. وهذا هو المنطق الأساسي للمقاومة الذي تتشاطره الغالبية الساحقة من أتباع حماس. علاوة على ذلك، فإن منطق المقاومة المناهضة للاستعمار ينتقل من جيل إلى جيل، ولا تؤدي ديناميكيات الإبادة الجماعية للصهيونية إلا إلى إدامة هذا المنطق نفسه.
الفشل في تحقيق "نصر كامل" على حماس هو أيضًا فشل في فهم الكيفية التي تعمل بها الجماعة كأيديولوجية، وتحديدًا كيف أن وضعها كأيديولوجية يجعل هزيمتها على أيدي كيان استعماري كالكيان الصهيوني أمرًا مستحيلًا.
تصريح النائب السابق لرئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، الذي أقر بأنه "لا توجد حلول عسكرية للصراعات التي تخوضها إسرائيل، خاصة في المنطقة الجنوبية"، يؤكد العمى السياسي للوضع الصهيوني الراهن.
لا يمكن إخضاع حماس أو بقية أعضاء محور المقاومة بالتهديد والقصف، لأن لهذه الجماعات أجندة سياسية خاصة غير قابلة للتفاوض حتى في مواجهة حملة الإبادة الجماعية الصهيونية. ويمثل هذا اختلافًا جوهريًا عن التحالفات العسكرية الغربية الكلاسيكية بين دول ذات تفكير مماثل لمكافحة تهديد مشترك من دون التزامات طويلة الأجل. على العكس من ذلك، محور المقاومة أكثر من مجرد تحالف من الجماعات؛ إنها أيديولوجية تشترك في أهداف غير قابلة للتفاوض، لكنها تسمح باستراتيجيات مختلفة لتحقيقها.
وبعبارة أخرى، فإن كل الجماعات التي يتألف منها محور المقاومة - سواء كانت سنية أو شيعية أو عربية أو غير عربية أو علمانية أو إسلامية - قادرة على التوصل إلى اتفاقات وتنظيم خلافاتها العرضية عبر استخدامها نفس لغة التقليد الإسلامي المناهض للاستعمار.