عددالزائرين الان

الخميس، 11 سبتمبر 2014

مقهى الفيشاوى.. رائحة الماضى تُعيد الذكريات

لكل حقبة من حقب التاريخ المصري سمت خاص وطابع مميز، فهى مرايا منقوشة الأطر بقلم معاصريها.. واعتادت الأمم أن تدق عروش حضارتها بلوحات أعلى جدر التاريخ لتبقى هى الشاهد الحاضر على عصور نمت وانقضت على الأرض ذاتها.
مقهى الفيشاوي، هو أولى اللوحات التي نبضت بخطى وحكايات قانطيها فاستحقت إلقاء الضوء عليها، فالمقاهي هي تاريخ ونبض البشر والنقطة التي التقت فيها خطوط أعمار كثيرين.. تقع في قلب القاهرة الفاطمية في إحدى الأزقة المجاورة لمسجد الحسين بحي الأزهر.
قبل نحو 245 عاما، كان هناك رجل يدعى الحاج فهمي الفيشاوي، بدأ تقديم القهوة فقط إلى أصدقائه والزائرين لمنطقة الحسين في زقاق خان الخليلي في القاهرة، مساء كل يوم بعد صلاة العشاء، حتى أصبحت تعرف باسم "قهوة الفيشاوي" حتى استطاع أن يشتري المتاجر المجاورة له، ويحولها إلى مقهى كبير ذي ثلاث حجرات.
أنفق الحاج فهمي الفيشاوي عمراً على ذاك المقهى التاريخي "كما يقول حفيده ووريثه ضياء الفيشاوى"، فبدأ مقهى الفيشاوي ببوفيه صغير ثم وسعه شيئاً فشيئاً، ومات سنة 1968 إثر إصابته بأزمة قلبية حادة، عقب صدور قرار من محافظة القاهرة في الستينات بإزالة جزء من المقهى بحجة تحديد منطقة معالم الحسين القديمة، وطالبت وقتها العشرات من الصحف المصرية، محافظ القاهرة بعدم الشروع فى هدم المقهي، على اعتبار أنه ذو تاريخ ويحمل عبق الماضي لكن محافظة القاهرة لم تلتفت لتلك الدعوات وأزالت جزءا كبيرا من المقهى لتصبح مساحة المقهى مائة وخمسين مترا بدلا من أربعمائة متر، فتوفى الجد، رحمه الله، متأثراً بصدمته بهدم مقهاه.
اكتسب مقهى الفيشاوي جزءاً من شهرته من أديب الوطن العربي – نجيب محفوظ- الذي بدأ فيها مسيرته الأدبية كما سجل في مذكراته، فقد أعتاد أن يجلس وحيداً في أحد أركان المقهى يتأمل،  أمامه كوب الشاي الأخضر الذي يحتسيه وبيده القلم، فقد أدرك أن مهد الفكرة ومنشأها هناك، ونصوص محفوظ الروائية مليئة بالأقاصيص عن عالم المقاهي التى استلهمها من إحدى أركان مقهى الفيشاوى، الذي أصبح مسرح العديد من روائعه الأدبية كالثلاثية وزقاق المدق وخان الخليلي، إضافة إلى الأعمال التى استحقت فيما بعد نيل جائزة نوبل للآداب.
في مقهى الفيشاوى اجتمع عبق التاريخ والشعبية معاً، فموقعه في قلب خان الخليلي والطابع الفاطمى الذي اتسم به غرفاته الثلاث "الباسفور- التحفة – القافيه" المصممة بخشب الأرابيسك والمطعمة بالأبنوس فضلاً عن المرايا المذهبة، فبداخل غرفة "القافيه" أكبر غرف المقهى مرآة ثلاثية فريدة وساعة حائط كبيرة، يرجع تاريخها إلى العصر التركي، إلى جانب راديو أثري، ونجفة ضخمة تعتلي الحجرة يرجع تاريخها إلى عام 1800م، ولا يستطيع أحد دخول الغرفة أو الجلوس بها، إلا لمن اعتاد التردد عليها أمثال "الأديب نجيب محفوظ والعندليب عبدالحليم حافظ والسياسي عمرو موسى"، تلك التحف الأثرية التي جعلت منها واجهة تاريخية في أكثر مناطق القاهرة شعبية.
تتعاقب الفترات الزمنية على المقهى، فالمكان الذي أعد قديما للحلقات الثقافية وملتقى للمتنافسين من الأدباء والشعراء انعزل اليوم في أركان القاهرة الفاطمية آوياً رواده من مختلف الفئات، حتى تعيد علينا الذاكرة مشهداً احتضر مع رحيل قاهرة المثقفين.
في يوم الخميس من كل شهر لأوائل القرن العشرين اعتادت صالة القافيه بمقهى الفيشاوى أن تستقبل العديد من الأشخاص من مختلف أنحاء مصر القديمة، يتجمعون في حلقات على أن يتركوا مساحه كبيرة خالية في وسط الصالة خالية من المناضد ومن الأشخاص أيضاً، لعقد المباراة "المنتظرة" التى يخوضها شخص ممثلاً عن كل حى من أحياء مصر القديمة "الحسين والجمالية والسيدة زينب والروضة" وغيرها، من سماته خفة الظل وسرعة البديهة وطلاقة اللسان والسخرية، والفائز هو من يستطيع مواصلة المباراة الكلامية في كل ما يخص الشعر والأدب الساخر، إلى النهاية محتفظاً بشغف الجمهور.
لعب موقع المقهى وانعزاله عن زخم الحياة وصراعات الإنسان الدنيوية، دوراً في جذب زوراه، فرواد المقهى معظمهم من السائحين أو قلة من المثقفين لرائدى الأدب والفن لمصر الحديثة أمثال الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم وجمال الغيطاني والعديد من السياسيين، فضلا عن مجموعات من كبار السن لمرتادي القهوة منذ سنوات، وبعض الحلقات الشبابية التي تفد للتنسم بعبق التاريخ من كراسي المقهى وأركانها، فكراسي المقهى مصنوعة من الخشب الآرابيسك المصنوع بدقة، مصطفة حول منضدة حديدية مستديرة، عليها الآنيات الحديدية للشاي والأكواب الحديدية أيضاً حتى المصابيح مصنوعة على شكل فوانيس ليكتمل الجو التاريخي للمكان.
يمر الزمن ومقهى الفيشاوى قابعة في مكانها كشاهد، فهنا عاش الجد والابن, وهنا اختلط الماضي بالحاضر في صورة حضارية، شهدت الثورات ومرت بالحلقات الثقافية التى نظمها الرواد، وعلى أحد كراسيها مكث أديب الوطن العربي يكتب، ليترك المقهى بصماته في أجمل لوحة حضارية بحي الحسين.
فكما يقول الفيشاوي الصغير عن المقهى: "هو الأثر الذي لا يقل في امتداده التاريخي عن الأهرامات، ويحمل في جوانبه أسرار رواده الراحلين من عباقرة الفن والأدب".