عددالزائرين الان

الخميس، 14 مارس 2013

تاريخ الإخوان المسلمين(4): استنساخ نموذج الثورة الإيرانية

سيطرت ظاهرة القوميات على المشهد العالمي اعتباراً من خمسينيات القرن الماضي؛ ففي مصر رفع الضباط الأحرار بقيادة جمال عبدالناصر لواء القومية العربية، ورفع محمد مصدق لواء القومية الفارسية في إيران.
وشكلّ مصدق تهديداً للشاه الذي كان يحمي المصالح البريطانية والأمريكية ، ونادى بضرورة تقسيم ثروة النفط على الشعب، ورغم العداء المشترك بين القوميين والأصوليين الشيعة للشاه إلا أن الأصوليين فضلوا التحالف مع الاستخبارات الأميركية في إفشال انقلاب مصدق.

أما عبدالناصر فلم يكن صيداً سهلاً، وتمكن من التصدي للمخططات الأميركية والبريطانية، ونجح في كسب التأييد الشعبي العربي، وحقق شهرة أسطورية على مستوى العالم، لكن طموحاته المعلنة لتصدير الثورة القومية إلى دول الجوار شكلت تهديداً لعدد من الأنظمة العربية، فتحالفت السعودية مع الولايات المتحدة ضد قومية عبدالناصر، وعملت الاستخبارات الأمريكية على دعم مناوئيه من الإقطاعيين والأثرياء المصريين الذين سلبهم عبدالناصر ممتلكاتهم باسم الاشتراكية.
انبهر العرب الذين خضعت بلدانهم للاستعمارين البريطاني والفرنسي بقومية عبدالناصر، وظهر عبدالناصر في صورة المخلّص لهم، وسلمت سوريا قيادها لثورته وانضوت تحت حكمه دون تأنٍ، واستمر عبدالناصر في إثارة العرب لقلب الأنظمة العربية.
نجحت الناصرية فعلاً في إسقاط الملكية الليبية ليتسلم مقاليد الحكم هناك معمر القذافي، وعززت الثورات في الجزائر واليمن والسودان.

أثار الدخول المصري إلى اليمن حفيظة السعودية التي دخلت في حرب باردة مع مصر، ولكن عبدالناصر تمكن من إحداث شرخ في صفوف العائلة السعودية عندما استمال الأمير طلال بن عبدالعزيز، الذي انشق عن النظام السعودي، مما جعل الحرب الباردة السعودية المصرية نموذجاً مصغراً من الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا.

كان الملك فاروق الذي انقلب عليه الضباط الأحرار بقيادة عبدالناصر منغمساً في الملذات، كما كان يبالغ في الاستعلاء، مما أفقده التأييد الشعبي والنخبوي في البلاد، وذلك سهل مهمة الضباط الأحرار في الانقلاب عليه، خصوصاً مع تخلي جماعة الإخوان المسلمين عن دعمه.

وكانت الاستخبارات الأميركية على علم بخطة الضباط الأحرار لخلع الملك، لكنها آثرت الوقوف على الحياد رغبة منها في التحالف مع القادة الجدد الذين بدوا أكثر قدرة على حماية مصالحها.

تمكن الرئيس الأميركي روزفلت من اقناع النخبة السياسية في بلاده بضرورة إزاحة الملك فاروق على أمل إقامة علاقات أفضل مع الضباط الأحرار، ولكن النتائج جاءت مخيبة لآماله.

أثارت تهديدات عبدالناصر المستمرة بإغلاق قناة السويس، قلق لندن وواشنطن، وحاولت بريطانيا ترتيب انقلاب ضد عبدالناصر ولكنها فشلت، لكنهما وجدا ضالتهما في جماعة الإخوان المسلمين التي كانت من القوة بحيث يعول عليها في مواجهة عبدالناصر، خصوصاً مع تغلغلها في المفاصل العسكرية للدولة المصرية، بل إن بعض الضباط الأحرار مثل محمد نجيب وأنور السادات كانوا من الإخوان.

أتت الثور بمحمد نجيب رئيساً أولاً لمصر في العهد الجمهوري، وجمال عبدالناصر نائباً له بمباركة أميركية وبريطانية، لكن عبدالناصر كان يتمتع بنفوذ أكبر مما تخيلته واشنطن ولندن، وكان صاحب السلطة الحقيقية على أرض الواقع.

بعد الثورة بعام أي 1953، حظر حكام مصر الجدد جميع الأحزاب السياسية باستثناء الإخوان المسلمين لدورهم الكبير في الثورة.
تجنب عبدالناصر الصدام مع الإخوان في بادئ الأمر إلا أنه لم يكن قادراً على الانسجام ايديولوجياً معهم، فقد كان يريد إقامة دولة علمانية بينما أصر الإخوان على أسلمة الدولة، وإعاقة الخطط الناصرية للإصلاح الزراعي والتعليمي.

بدأت حرب عبدالناصر مع الإخوان عام 1954، بتنحية محمد نجيب، ثم أصدر مرسوماً يقضي بحظر الجماعة واعتبارها خارجة عن القانون، وحاولت الولايات المتحدة وبريطانيا دعم الإخوان، وأقنعت السعودية بتمويلهم، فقام عبدالناصر بالرد عليهم بتأميم الصناعات والأعمال التجارية الكبرى وعلى رأسها قناة السويس.

نجحت الولايات المتحدة في تشكيل خلايا سرية في مصر تعمل ضد عبدالناصر، وأقنعت الإخوان المسلمين بالتعاون مع جماعات إيرانية شيعية متشددة، كان إحدى ثمارها تشكيل خلية "فدائيي الإسلام" التي تزعمها الإيراني نواب الصفوي، والذي زار القاهرة عام 1954 بهدف التنسيق مع جماعة الإخوان بمباركة أميركية.

أسفر التعاون الإيراني الإخواني عن ما يشبه الانتفاضة الشعبية ضد عبدالناصر، لكنه نجح في التصدي لها باعتقال عدد من زعامات الإخوان ومحاكمتهم وشحب الجنسية المصرية من خمسة منهم، من بينهم سعيد رمضان صهر حسن البنا، الذي كانت الولايات المتحدة استقبلته استقبال الملوك العام السابق 1953.

رتبت الاستخبارات البريطانية لاغتيال عبدالناصر، وكلفت أحد عناصر الإخوان بتنفيذ مخطط اغتيال فاشل في 26 اكتوبر 1954 بإطلاق النار عليه من مسافة قريبة، وتم اعتقال الفاعل.

واستمرت المحاولات البريطانية طيلة الخمسينيات متخذة أشكالاً شتى، من دس السم في الطعام أو الشراب أو في السجائر أو السهام القاتلة، وكل تلك المحاولات كان ينفذها أعضاء في جماعة الإخوان، وجميعها باءت بالفشل.

انتقم عبدالناصر باعتقال نحو ألف عضو من الإخوان، ونفذ في بعضهم أحكام الإعدام شنقاً، بالإضافة إلى مصادرة أملاكهم، واستغل عبدالناصر وجود بعض ضباط الاستخبارات النازية السابقين في مصر وقام بتجنيدهم ضمن الاستخبارات المصرية لتعقب الجماعة، في خطوة ذكية تمكن بفضلها من التصدي للمخططات الأميركية والبريطانية.

لم تجد بريطانيا مناصاً من شن الحرب رسمياً على عبدالناصر إثر تأميمه قناة السويس، فشكلت تحالفاً ثلاثياً مع فرنسا وإسرائيل عام 1956، وبدأت حربها ضد مصر التي عُرفت بـ "العدوان الثلاثي".

كانت بريطانيا قبل تلك الحرب قد اجتمعت مع رموز الإخوان في جنيف لترتيب معارضة سرية ضد عبدالناصر في أوروبا وإقامة حكومة جديدة إخوانية في المنفى، وكان الإخوان في غاية التأهب من أجل الانقضاض على السلطة بعد العدوان الثلاثي، ولكن الولايات المتحدة كان لها رأي آخر في ذلك الأمر، ففضلت إعطاء عبدالناصر فرصة أخرى لبناء علاقات جديدة قائمة على مصالح وتسوية طويلة الأمد، ولكن الولايات المتحدة لم تتخل مع ذلك عن دعم الأصولية الإسلامية واحتضانها.

كان محمد مصدق سبق جمال عبدالناصر في قضية التأميم؛ إذ أنه بمجرد توليه رئاسة الوزراء عام 1951 قام بتأميم شركة النفط الإيرانية البريطانية، ليوجه بذلك ضربة قاصمة لبريطانيا التي كانت تعتمد على النفط الإيراني بشكل كبير لتزويد اساطيلها الحربية واحتياجاتها الاستهلاكية.

قررت بريطانيا التحالف مع الأصوليين الشيعة لإسقاط حكم مصدق بوساطة استخبارية أميركية، وهذا ما تم عام 1953، وقام الشاه بإلغاء قرار التأميم مقابل الحفاظ على عرشه.

وقدمت الاستخبارات الأميركية والبريطانية الرشى للملالي آيات الله لحشدهم ضد مصدق، وكان زعيم الإخوان في إيران آية الله سيد أبوالقاسم كاشاني هو من أطلق شرارة المعارضة ضده، في تجربة استنسخت لاحقاً في مصر.
كان كاشاني هو المعلم الروحي لآية الله الخميني، وكان الخميني يقود المظاهرات في شوارع طهران، ومن الغريب أن يقوم الخميني بالاستيلاء على السلطة عام 1979 رغم انه كان مخلصاً ظاهرياً في البداية للشاه، مما يدل على مدى التشابه في الفكر الأصولي الشيعي والإخواني من حيث الانتهازية.

كان الشاه رضا بهلوي يرغب في إنشاء جمهورية علمانية وفق النموذج التركي ولكن آيات الله وعلى رأسهم كاشاني عارضوا الفكرة وأصرّوا على المملكة، تمهيداً للاستيلاء على السلطة، بإبعاد أي منافسين آخرين، ولم يدرك الشاه أن الأميركيين والغرب عموماً سيتخلون عنه بسهولة لاحقاً.

أعلن كاشاني الحرب رسمياً على الشاه عام 1939 عندما قام الشاه بحظر ممارسات الشيعة الدينية القائمة على اللطم والتطبير، على اعتبار أنها طقوس مروعة، وكان أيضاً ألغى الحجاب في عشرينيات القرن الماضي.

تمكن الملالي من استحداث نموذج ثوري فاعل استلهمه لاحقاً الإخوان المسلمون في مصر لدى تشكيلهم تنظيم "فدائيي الإسلام" بزعامة نواب الصفوي، كما عمدوا إلى اغتيال عدد من المسؤولين الإيرانيين، وحاولوا اغتيال الشاه نفسه، وكانت بريطانيا تستخدم هؤلاء الأصوليين للضغط على الشاه وإجباره على تنفيذ مطالبها، إذ أغدقت الاستخبارات البريطانية عليهم الأموال عبر بعض التجار المكلفين بمهمة إيصالها إلى آيات الله الإيرانية.

كاد تأميم مصدق للنفط الإيراني أن يتسبب في غزو بريطاني لإيران تماماً كما حدث لاحقاً في العدوان الثلاثي على مصر 1956، ولكن الولايات المتحدة هي من طالبت بريطانيا بالتروي واستخدام سلاح الأصولية بدلاً من القيام بعمل عسكري، وبالفعل نجحت الفكرة وتم عزل مصدق.

ومع انضمام كاشاني إلى الحلفاء الغربيين ازداد النفوذ الأمريكي البريطاني في إيران وتم تعزيز قوة كاشاني بالسلاح والمال وتم تشجيعه على رفع مستوى الأصولية الإسلامية وكذلك العمليات السرية، بالإضافة إلى التواصل مع العديد من الشخصيات الدينية الإيرانية مثل آية الله بوروجردي وآية الله بهبهاني لتعزيز سيطرتهم وحركاتهم في إيران.

استمات الشاه هو وجهاز استخباراته "السافاك" من أجل الدفاع عن عرشه، ولكن الولايات المتحدة وبريطانيا كانتا عازمتين على عزله، وعقدتا آمالهما على التحالف مع الخميني الذي خيب ظنهما لاحقاً.